الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)
وهذه النشأة الإنسانية فيها ما لم يدركه علم الإنسان، لأنه كان قبل وجود الإنسان. وفيها ما يشاهده ويراقبه. ولكن هذا إنما تم حديثاً بعد نزول هذا القرآن بقرون!فخلق الإنسان من تراب حقيقة سابقة على وجود الإنسان. والتراب أصل الحياة كلها على وجه هذه الأرض. ومنها الحياة الإنسانية. ولا يعلم إلا الله كيف تمت هذه الخارقة، ولا كيف تم هذا الحادث الضخم في تاريخ الأرض وتاريخ الحياة. وأما تكاثر الإنسان بعد ذلك عن طريق التزاوج فيتم عن طريق التقاء خلية التذكير وهي النطفة بالبويضة، واتحادهما، واستقرارهما في الرحم في صورة علقة.. وفي نهاية المرحلة الجنينية يخرج الطفل بعد عدة تطورات كبرى في طبيعة الخلية الأولى، تعد إذا نحن نظرنا إليها بتدبر أطول وأكبر من الأطوار التي يمر بها الطفل من ولادته إلى أن ينتهي أجله، والتي يقف السياق عند بعض مراحلها البارزة: مرحلة الطفولة. ثم بلوغ الأشد حوالي الثلاثين. ثم الشيخوخة. وهي المراحل التي تمثل أقصى القوة بين طرفين من الضعف. {ومنكم من يتوفى من قبل} أن يبلغ هذه المراحل جميعاً أو بعضها. {ولتبلغوا أجلاً مسمى} مقدراً معلوماً لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون. {ولعلكم تعقلون}.. فمتابعة رحلة الجنين. ورحلة الوليد. وتدبر ما تشيران إليه من حسن الخلق والتقدير، مما للعقل فيه دور كبير..ورحلة الجنين رحلة عجيبة ممتعة حقاً. وقد عرفنا الكثير عنها بعد تقدم الطب وعلم الأجنة بشكل خاص.ولكن إشارة القرآن إليها بهذه الدقة منذ حوالي أربعة عشر قرناً أمر يستوقف النظر. ولا يمكن أن يمر عليه عاقل دون أن يقف أمامه يتدبره ويفكر فيه.ورحلة الجنين ورحلة الطفل كلتاهما توقع على الحس البشري وتلمس القلب الإنساني في أي بيئة وفي أي مرحلة من مراحل الرشد العقلي. وكل جيل يحس لهذه اللمسة وقعها على طريقته وحسب معلوماته. فيخاطب القرآن بها جميع أجيال البشر.. فيحسون.. ثم يستجيبون أو لا يستجيبون!وهو يعقب عليها بعرض حقيقة الإحياء والإماتة. وحقيقة الخلق والإنشاء جميعاً:{هو الذي يحيي ويميت فإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون}..وتكثر الإشارة في القرآن إلى آيتي الحياة والموت. لأنهما تلمسان قلب الإنسان بشدة وعمق. ثم لأنهما الظاهرتان البارزتان المكررتان في كل ما يقع عليه حس الإنسان. وللإحياء والإماتة مدلول أكبر مما يبدو لأول مرة. فالحياة ألوان. والموت ألوان. وإن رؤية الأرض الميتة. ثم رؤيتها تنبض بالحياة. ورؤية الشجرة الجافة الأوراق والأغصان في موسم، ثم رؤيتها والحياة تنبث منها في كل موضع، وتخضر وتورق وتزهر، كما لو كانت الحياة تتفجر منها وتفيض. ورؤية البيضة.. ثم الفرخ. ورؤية البذرة ثم النبتة.. وعكس هذه الرحلة.. من الحياة إلى الموت، كالرحلة من الموت إلى الحياة.. كلها تلمس القلب وتستجيشه إلى قدر من التأثر والتدبر يختلف باختلاف النفوس والحالات.ومن الحياة والموت إلى حقيقة الإنشاء وأداة الإبداع. وإن هي إلا الإرادة يتمثل اتجاهها إلى الخلق. خلق أي شيء. في كلمة {كن}.. فإذا الوجود ينبثق على إثرها {فيكون} فتبارك الله أحسن الخالقين..وأمام نشأة الحياة البشرية. وفي ظل مشهد الحياة والموت. وحقيقة الإنشاء والإبداع.. يبدو الجدال في آيات الله مستغرباً مستنكراً؛ ويبدو التكذيب بالرسل عجيباً نكيراً. ومن ثم يواجهه بالتهديد المخيف في صورة مشهد من مشاهد القيامة العنيفة:{ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعو من قبل شيئاً كذلك يضل الله الكافرين ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين}..إنه التعجيب من أمر الذين يجادلون في آيات الله، في ظل استعراض هذه الآيات. مقدمة لبيان ما ينتظرهم هناك!{ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون}..{الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا}..وهم كذبوا كتاباً واحداً. ورسولاً واحداً. ولكنهم إنما يكذبون بهذا كل ما جاء به الرسل. فهي عقيدة واحدة، تتمثل في أكمل صورها في الرسالة الأخيرة.ومن ثم فهم كذبوا بكل رسالة وبكل رسول.. كل مكذب في القديم والحديث صنع هذا حين كذب رسوله الذي جاءه بالحق الواحد وبعقيدة التوحيد.{فسوف يعلمون}..ثم يعرض ماذا سوف يعلمون..إنها الإهانة والتحقير في العذاب. لا مجرد العذاب. {إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون}.. بهذه المهانة كما تسحب الأنعام والوحوش! وعلام التكريم؟ وقد خلعوا عن أنفسهم شارة التكريم؟!وبعد السحب والجر في هذا العذاب وفي هذه المهانة، ينتهي بهم المطاف إلى ماء حار وإلى نار:{في الحميم ثم في النار يسجرون}..أي يربطون ويحبسون، على طريقة سجر الكلاب. أي يملأ لهم المكان ماء حاراً وناراً موقدة. وإلى هذا ينتهون. وبينما هم في هذا العذاب المهين يوجه إليهم التبكيت والترذيل والإحراج والإعنات:{ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله}..فيجيبون إجابة المخدوع الذي انكشفت له خدعته، وهو يائس حسير.{قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعو من قبل شيئاً}..غابوا عنا فلم نعد نعرف لهم طريقاً، وما عادوا يعرفون لنا طريقاً. بل لم نكن ندعو من قبل شيئاً. فقد كانت كلها أوهاماً وأضاليل!وعلى إثر الجواب البائس يجيء التعقيب العام:{كذلك يضل الله الكافرين}..ثم يوجه إليهم التأنيب الأخير:{ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين}..يا مغيث! وأين إذن كان السحب في السلاسل والأغلال، وكان الماء الحار والنار؟ يبدو أنها كانت مقدمة للدخول في جهنم للخلود.. {فبئس مثوى المتكبرين}.. فعن الكبر نشأت هذه المهانة. وجزاء على الكبر كان هذا التحقير!وأمام هذا المشهد. مشهد الذل والمهانة والعذاب الرعيب. وعاقبة الجدال في آيات الله، والكبر النافخ في الصدور.. أمام هذا المشهد وهذه العاقبة يتجه السياق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيه بالصبر عل ما يجده من كبر ومن جدال، والثقة بوعد الله الحق على كل حال. سواء أراه الله بعض الذي يعدهم في حياته، أو قبضه إليه وتولى الأمر عنه. فالقضية كلها راجعة إلى الله، وليس على الرسول إلا البلاغ، وهم إليه راجعون:{فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون}..وهنا نقف أمام لفتة تستحق التدبر العميق. إن هذا الرسول الذي يلاقي ما يلاقي من الأذى والتكذيب والكبر والكنود، يقال له ما مفهومه: أد واجبك وقف عنده. فأما النتائج فليست من أمرك. حتى شفاء صدره بأن يشهد تحقق بعض وعيد الله للمتكبرين المكذبين ليس له أن يعلق به قلبه! إنه يعمل وكفى. يؤدي واجبه ويمضي. فالأمر ليس أمره. والقضية ليست قضيته. إن الأمر كله لله. والله يفعل به ما يريد.يا لله! يا للمرتقى العالي.
|